كيف نبني طفلاً أخلاقيًّا؟ 2من4
أطفال اليوم هم بذور أشجار المستقبل، ولذا ليس من الغريب أن يسمى الأطفال عند بعض الشعوب بـ”البذور. وإذ أن طفل اليوم هو بذرة شجرة المستقبل، فالجدير بنا معرفة الأهمية البالغة لهذه البذرة، وبمعرفتنا لهذه الأهمية ينبغي أن تتوجه أنظارنا بجدية فائقة إلى ما ينبغي أن يكون عليه بناؤها: كيف ننميها، ونهذبها، ونرعاها، ونحصنها، ونحميها، ونحافظ عليها، خصوصا وأننا نعقد الآمال عليها، وننتظر منها أن تكون رقما في المستقبل وشيئا مذكورا.
إن الطفل هو نواة إنسان المستقبل، والبناء الأخلاقي له هو البناء الأخلاقي للإنسان، هذا النجد أو المبدأ الذي رسمته رسالات السماء، ودعت إلى رعايته القوانين الوضعية الخيرة المنظمة والحافظة للعدالة الاجتماعية، والمواثيق الدولية. إن الإنسان في هذه الحياة لا يعيش بمفرده، بل هو كائن اجتماعي، بمعنى أنه يأنس بالآخرين، وهذا الأنس ضرورة من ضرورات حياته، وهو من جوهر فطرته التي فطره الله عليها، وهو ذو علاقة بالحاجة الإنسانية، هذه الحاجة التي تقتضي أن يدخل الإنسان مع أخيه الإنسان في علاقات ومعاملات اجتماعية تبادلية يترتب عليها مسؤوليات وحقوق وواجبات.
ومن جانب آخر ينبغي التوجه بجدية فائقة إلى أن من أبرز الأزمات التي يعاني منها عالم اليوم هي “أزمة القيم”، وهي أزمة حادة لا تقل خطورة عن الأزمات الأخرى كالاقتصادية والسياسية والثقافية، بل ربما تكون أخطرها على وجه الإطلاق، وذلك لأن البناء الأخلاقي للإنسان هو أساس تصرفات الإنسان وسلوكه في الواقع الخارجي، فإذا كان هذا البناء يعاني من خلل أو فساد، فمن الطبيعي أن ينعكس ذلك في مجالات حياته. ومن هنا فالبناء الأخلاقي للطفل هو بناء تأسيسي ومحور أولي يصل إلى درجة أنه يقرر مصير الإنسان مستقبلا، ولذا ليس من قبيل الترف الشعري قول الشاعر : (وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا).
وعلى هذا فإن من الأمور الابتدائية في هذا السبيل – والتي ينبغي لنا أن نعيها ونعيشها ونتقنها جيدا – أن البناء الأخلاقي للطفل ليس “تكتيكا” مؤقتا أو مرحليا، بل هو -إذا جاز التعبير- “استراتيجية” ينبغي أن تكون في الاعتبار والحسبان لدى كل أب وأم ومربٍّ ومؤسسة تربوية. بعبارة أخرى أن البناء الأخلاقي للطفل فعل وليس رد فعل، وضرورة وحاجة إنسانية أكيدة، مطلوبة في كل مكان وزمان، ومنه زماننا الذي نعيش فيه، هذا الزمن الذي هو أشبه بالخضم المتلاطم المشحون بالمؤثرات وعوامل القولبة والتشكيل: زمن ثورة المعلومات والاتصالات والنشر الإلكتروني والقنوات الفضائية، وما يُدعى بـ”العولمة” التي يظهر من معطياتها وتجلياتها وأهدافها أنها تريد مسخنا، وجعلنا مجرد تابعين ومرددين ومستهلكين في دائرة الثقافة الغربية الليبرالية الرأسمالية. ومن هنا – ومع استفادتنا الواعية والعقلانية من معطيات ثورة المعلومات والاتصالات والصورة المتحركة- لابد أن نبني أنفسنا جيدا في مجال الأخلاق والتحلي بالقيم والمثل الفاضلة، لنكون صورا حية فاضلة لأطفالنا، وأن نربي نَشْأَنا على ذلك. ومن أول الأمور أن نعلمه الحدود ومعناها بما يتناسب ومستوى إدراكاته العقلية كما مر بنا في الحلقة الأولى، على طريق بناء إنسان يحترم القيم والمثل الفاضلة، ويعيش تحت ظلها.
إن من أخطر الأمور في مجال التربية ترك الطفل بلا حدود، لأن تركه بدونها يعني جعله ينشأ ويترعرع بعيدا عن دائرة القيم والمثل التي ينبغي أن يتصف ويتحلى بها حينما يكبر، لتكون أساسا وجزء من شخصيته ومعاملاته وعلاقاته الاجتماعية مع بني نوعه. ومن هنا لكي نعلم الطفل الحدود ومعناها، ينبغي أن نعلمه أن هناك سلطة ينبغي له الرجوع إليها، وهما الوالدان. ومن شأن الوالدين أنهما يرسلان من-دون قصد- إشارات في هذا السبيل منذ البداية، أو عمدا مشكلين معظم الرسائل الحاسمة والصعبة.
وعن تعليم الطفل معنى الحدود، في كتابه “الذكاء الأخلاقي للأطفال” يعالج روبرت كولز قصة امرأة لها ولد في عمر ستة شهور. كان الطفل الرضيع على ما يبدو يستمتع بقذف زجاجة رضاعته “المِرضعة أو الرضّاعة” على أرضية المطبخ. وكانت الأم في البداية تتصور أن ولدها لا يدرك أي شيء، ولكن سرعان ما خامرها شعور بأن طفلها يستلذ ويستمتع بعمل الفوضى. ثم أن الأم لجأت إلى أسلوب يمكنها من صرف رضيعها عن هذا الأمر، فعمدت إلى الانتظار بجنب المقعد العالي الذي أجلست عليه الطفل، وبينما كانت تلهيه بإصدار بعض الأصوات والزقزقات، سحبت منه بيسر زجاجة الحليب الخالية. وحينها فقد الطفل اهتمامه في قذف الزجاجة. وما يبدو لنا أنه حيلة ذكية من أم ذكية هو بالفعل درس مبكر للطفل في الأخلاق. ويعبر عنه كولز بقوله: “ذلك نوع من المعرفة الأخلاقية: إنه تعلم معنى الحدود”.
إن مجال تعليم الطفل معنى الحدود كبير وواسع، فالوالدان يمكن تعليم طفلهما إياها باستعمال الفعل، كما فعلت المرأة مع طفلها الذي كان يستلذ برمي زجاجة حليبه على أرضية المطبخ، وقد يكون باستعمال الكلمة، أو الإشارة، أو النظرة. إن الوالد (أبا كان أو أما) يقوم بتوصيل مجموعات مركبة من القواعد عن الأخذ والعطاء. ومن هنا فتعلم تبادل الوالد للأحاديث الودية أو النظرات المتواقتة أو المتزامنة مع الطفل يؤهله لعلاقات أصعب وأعقد فيما بعد في حياته، وهذه تبادلية اجتماعية على حد تعبير الدكتور “روبرت إيمد” الأخصائي النفسي في مركز العلوم الصحية بجامعة كولورادو. هذا النوع من الأخذ والعطاء هو في صلب وجوهر كل الأنظمة الأخلاقية. خذ ببساطة هذه القاعدة الذهبية أمامك : “إفعل للآخرين خيرا كيما يقابلونك بالمثل”. إن الأطفال الذين احتضنوا وقدمت لهم الرعاية، والذين لم تمتد إليهم يد الإفساد وأشبعت حاجاتهم العاطفية هم أكثر استعدادا لإظهار سلوك مستقيمة وأخلاقية مستقبلا. أما الأطفال الذين عاشوا الجوع العاطفي في طفولتهم قد لا يكون لديهم القدرة البيولوجية على الاتصاف بالعطف والرحمة في سلوكهم وتصرفاتهم.
وإثباتا لهذا الأمر، قام الدكتور “بروس بيري” الأخصائي النفسي في كلية بيلور للطب بدراسة فحوصات للمخ لأطفال قد عانوا بشدة من الإهمال والتجاهل من قبل مربيهم، ووجد أن منطقة المخ المسؤولة عن المودة والارتباطات العاطفية لم يحصل لها النمو بانتظام. وحسب الدكتور بيري، أن الأطفال الذين لم يحصلوا على قسطهم الكافي من التربية والحنان والاهتمام العاطفي في حياتهم المبكرة يعانون من نقص في القدرة على تكوين علاقات حميمة. وقد لاحظ أحد الأطباء النفسانيين أن الدارجين الذين أسيئت معاملتهم كانوا أكثر ميلا لضرب أو إهانة نظير أو ندٍّ باكٍ.
وعندما يتعلم الأطفال الحبو وبعدها المشي، تنمو معهم القدرة على الكشف والاكتشاف قياسا إلى كيفية ظهور الأشياء لهم ومصدر ظهورها. وعند سن الثانية، يدخل الأطفال مرحلة المماحكة والجدال والتمسك والثبات على طريقة أو مبدأ لا يغيرونه حينما تنتهك قواعدهم الشخصية، فتجد الطفل حينها يدافع أو يعترض على شيء حينما يرى أن ذلك مخالف لما وصل إليه من قواعد تلقاها من مربيه. وعند هذا السن يبدأ الأطفال بكشف واختبار الحدود لعالمهم الجديد، ولكنهم لا يكتشفونه بوحدهم، بل بمساعدة والديهم، بما يعرف بالرجوع الاجتماعي (Social referencing)، حيث يرجع الطفل إلى أبيه حين يريد القيام بعمل وخصوصا إذا كان هذا العمل جديد أو غريب عليه، ولم يألفه من قبل. ودور الوالدين أن يكونوا حسني التصرف في رجوع أطفالهم إليهم في مثل هذه المواقف، بل عليهم أن يربوا أطفالهم عليه على طريق تقويم وتوجيه سلوكهم وجعلها في الطريق السليم الخيِّر.
بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد