الانفتاح والحوار والتفاهم في العلاقات الزوجية
ينقل أحد خبراء العلاقات الزوجية قصة فيقول : جاءتني إحداهن تشكو من أن زوجها قليل الكلام معها، فهو دائما ميال إلى الصمت، قليل الكلام، وعندما تطلب منه شيئا يرد عليها بإيجاز شديد، وينتهي الحديث، فهذا هو ديدنه وطريقته في التصرف في البيت. كانت تعاني من كثرة صمته، ومن ضعف مقدرته في اللباقة وفتح الأحاديث الودية، إذ لا غنى للزوج في بيت الزوجية من الأحاديث المتبادلة مع زوجه وشريك حياته، ولا غنى له عن التفاهم المشترك في شؤون الحياة الزوجية، وكم هي السعادة حينما يجلس الزوجان ويتبادلان أطراف الحديث فيما يخص حياتهما الزوجية، وفيما يدخل على قلبيهما الشعور بالانشراح والمتعة والسعادة! ووضعت في اعتباري أن من طبيعة المرء أنه يجنح إلى الميل والرغبة والتفاعل حين التحدث إليه عن أمور تهمه ويرغب إليها، فسألتها عن هواياته وعما يرغب فيه، فذكرت لي أنه يحب الحمام وتربيته وتطييره -وما أحلاها من هواية!- فاقترحت عليها أن تقوم بزيارة إلى بعض المكتبات وتشتري له كتابا جميلا ومتميزا حول تربية وتطيير الحمام. وبالفعل فقد اشترت الكتاب -والكلام للخبير- وغلفته بغلاف أنيق، وقدمته هدية إلى زوجها مشفوعة بابتسامة مشرقة. ولشد ما كان سروره وفرحته حينما رأى أن موضوع الكتاب يدور حول الحمام، محبوبه الذي يأنس به ويحبه أشد الحب، ويلتذ بممارسة الهواية معه. ثم دخلتْ معه في موضوع ودّي وشيّق عن الحمام، واستعراض أنواعه، ومميزات كل نوع، وطريقة تطييره، وكان ذلك بمثابة المفتاح السحري لزوجها لكي يتعلم فن الحوار وفتح الأحاديث الودية وحوارات التفاهم في شؤون العلاقات الزجية. وبالفعل فقد حقق تحسنا في هذا السبيل وأمسى فيما بعد شخصا لبقا قادرا على فتح الحديث وإجراء الحوار.
وهذه القصة وإن كانت تعالج بصورة خاصة نوعا معينا من الأزواج، وهم الأزواج قليلوا الكلام والميالون إلى السكوت، لكنها تقود إلى ثلاثة أمور ذات علاقة فيما بينها بموضوع الحوار: أولهما، وهو الظاهر في القصة، أن الحوار في العلاقة الزوجية أمر مطلوب وقاعدة فنية على مستوى كبير من الأهمية في الحياة الزوجية، فالزوج في ظل هذه الشراكة لا يعيش مع حجر، بل هو يعيش مع إنسان ذي عقل، ورأي، وعواطف، ومشاعر، وشخصية، وهو زوجه، وهذه المعيشة تقتضي التفاهم والتعاون، وهذا التفاهم والتعاون بحاجة إلى الحوار، والحوار يحتاج إلى الانفتاح: انفتاح قلبي كل من الزوجين على الآخر من دون حواجز، انفتاح يمكن كل منهما من الإفضاء إلى الآخر بما يشعر به ويجيش في خاطره. والأمر الثاني أن الحوار فن من الفنون، ويحتاج كل من لا يتقنه أن يبدأ بتعلمه واكتسابه، وليس عيبا على من لا يتقن هذا الفن أن يتعلمه. ولا غرابة أن نجد هناك معاهد تدرّس هذا الفن باعتباره يدخل كطرف ووواسطة في كثير من العقود والمعاملات في مختلف مجالات الحياة.والأمر الثالث أن الحوار ليس قضية مطلوبة في الأحاديث الودية بين الزوجين فقط، بل هو حاجة ماسة في معالجة التفاوت في وجهات النظر بينهما، وهي أمور محتملة الحدوث بينهما على أية حال، وأكثر من ذلك هو حاجة ماسة في معالجة الاختلافات الزوجية المتوسطة والحادة، وهي اختلافات لا يخلو منها أي مجتمع.
وفي هذا السياق يحكي أحد الأزواج قصته فيقول: بتوفيق الله تزوجت من زوجتي التي أحبها كثيرا، وبعد مدة من زواجنا حصل بيني وبينها نوع من البرود في العلاقة، وحاولت أن أستفهم منها عن السبب في ذلك، فكانت ترفض الإفصاح عن أي شيء عن ذلك برغم إصراري، ولجأتْ إلى الكبت في نفسها. وقد يكون السبب في ذلك الكبت أنها كانت تخجل من أن تفاتحني بالسبب، أو أنها كانت غير مبينة في الخصام كحالة ترتبط بطبيعة المرأة، كما أورده الكتاب العزيز في شأن خصوصياتها ((أو من يُنشَّأُ في الحلية وهو في الخصام غير مبين))، و ربما كانت متصلبة إلى ذاتها، أو ربما غير واعية بصورة كافية لدور الانفتاح والحوار في العلاقات الزوجية. ومهما يكن السبب فقد ظلت على حالها، حتى عادت المياه إلى مجاريها بيننا فيما بعد. ثم تكررت مثل هذه الحالة مرات ومرات، وفي بعضها كانت تلجأ إلى البكاء، وكنت أفكر في طريقة تمكنها من الإقلاع من حالة الكبت الداخلي، والإفصاح عما تراه سببا في حصول البرود في العلاقة، وكان طريقي إلى ذلك أمران: محاسبة نفسي إن كنت أنا المخطئ، وتشجيعها على الحوار، وإبراز إيجابياته والوظيفة التي يمكن أن يؤديها في تصفية ما يشوب علاقاتنا الزوجية. كنت أقول لها بإخلاص: زوجتي العزيزة! إننا صديقان علاوة على أننا زوجان، ومن شأن الصديقين أن ينفتحا على بعضهما، ولا مجال للكبت بينهما، فأنا زوجك وصديقك في الوقت نفسه، وإذا ما حدث شيئا بيني وبينك، فلتأتي إليّ ولتفتحي قلبك لي، ولتطرحي عليّ ما لديك من أمور، وإذا كنت تعتقدين أو تظنين أنني المخطئ فلا أجد حرجا من أن تذكريني بخطأي لأعترف به، فالاعتراف بالخطأ فضيلة، ولا داعي لأن تجعليني أنا المبادر في تصفية الخلافات، فكل منا مطلوب منه المبادرة، والفضل للمبادر الأول. يقول الصديق: كانت زوجتي تشعر بصعوبة في الإقلاع عن هذا التصرف، وهو التوقف عند محطة الخلاف أو سوء التفاهم، واللجوء إلى الكبت، واجترار الموقف في النفس، وترك الانفتاح على الآخر لتصفية الخلاف نفسه. ويبدو لي أن خجلها مني وفهمها غير الكافي لدور الحوار في العلاقات الزوجية كان يمثل جزءا كبيرا من ذلك. لكنني والحمد لله مع التجربة والأيام والتذكير والتشجيع لمست منها تغيرا إلى الأفضل في مجال الانفتاح والحوار، خصوصا مع تأكيدي المتكرر والموقت في مواقيت مناسبة على أهمية ذلك، وإذ أنظر اليوم إليها وهي زوجة منفتحة على زوجها محاورة ومتفاهمة، فإن هذا مما يملؤني شعورا بالبهجة والسعادة.
وهكذا فإن الحوار قاعدة ذهبية وفنية تفعل فعل السحر، ولا ينبغي أن يهملها زوجان على طريق حياة زوجية تكاملية ومستقرة وسعيدة، وإن كثيرا من الاختلافات الزوجية والعائلية -وربما النزاعات – قد لا تحتاج من الزوجين سوى شيء من ضبط النفس واللياقة والجلوس مع بعضهما إلى مائدة التفاهم والانفتاح والحوار : أن يفرش كل طرف ما عنده بصورة هادئة، وأن يتخلى عن حالة الجماح النفسي والانتصار للذات الذي لا داعي له، وأن يتحلى بشيء من العدالة في تقييم التصرفات واتخاذ المواقف، إذ المسألة -أولا وأخيرا- هي مسألة تعامل مع شريك ومصالح مشتركة ذات أهداف إنسانية نبيلة، وليست مسألة منتصر ومهزوم كما يتصور البعض.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن من الأسباب التي تمنع من الحوار والتفاهم لدى بعض الأزواج، هو النظرة الدونية للمرأة، حيث يرى بعض الأزواج أن الزوج لا ينبغي له أن يطأطئ رأسه للزوجة باللجوء إلى الحوار معها، بل إرغامها -كيفما تكون الحال- بالقبول بالأمر الواقع والإذعان له، وكأنهم يعيشون حربا أو معركة وليس حياة شراكة ينبغي أن تكون مسيجة بالحب والتفاهم والتسامح والتعاون والتكامل، وبكل ما يحفظ لها الاستقرار والاطمئنان والسعادة.
ليجرب الواحد منا أن يكون محاورا في حياته الزوجية -فضلا عن التوسل بالحوار في الحياة العامة كطريقة في معالجة الأمور والاختلافات- وليرى بعينه النتائج الإيجابية والطيبة التي يصل إليها وزوجته عن طريق الحوار. إنه ليس ثمة مصلحة أكبر من حياة زوجية تقوم على الحوار القائم على الانفتاح والتفاهم بين الشريكين، وليس ثمة خسارة أكبر من افتقارها إلى ذلك.
بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد
10/12/1999م