كيف نجعل ثقافة النظم والنظام عادة وتقليدا في مجتمعنا؟
ليست الثقافة في الحياة مجرد معلومات ومعارف، بل هي بالإضافة إلى ذلك ممارسات وسلوك وسيرة عملية. والنظام –كثقافة وممارسة وسيرة- يرتبط بقيم أخلاقية وبالتزامها إلى درجة أن مخالفته قد تصب في مخالفة تلك القيم. والنظام في الحياة ليس مطلبا ترفيا، وإنما هو حاجة إنسانية، بدونها تمسي حياة الإنسان فوضى، وأكثر من ذلك أن حالة الفوضى قد تؤدي إلى تبديد الجهد والوقت والمال، سواء على المستوى الفردي أو على مستوى المال العام.
والنظام حالة طبيعية كونية وهبها البارئ المصور –سبحانه وتعالى- للإنسان في هذه الحياة، لكي ينعم بها، ويستفيد منها، ويتناغم معها، وفي ذات الوقت يحافظ عليها، ووهبه العقل الذي هو أول وأكبر مقومات النظم والنظام. ولسنا بحاجة إلى عقد مقارنات تفضيلية بين النظام واللانظام، بين النظم والفوضى من حيث ميل الإنسان للنظام وفائدته له. فالنظام بطبيعته أمر جميل ومحبوب ومرغوب إلى نفس الإنسان، وهو مفيد ونافع له كما تقدم، أما الفوضى واللانظام فلا يمكن أن تكون كذلك، ولا يحبها الإنسان ولا يرغب إليها إلا من حُرم من تعلم النظام، أو قادته الظروف المحيطة به إلى أن يكون لامنظما. يضاف إلى ذلك أن حالة الفوضى إن استفاد منها الإنسان، فهي قد تتسبب في تعدٍّ على خصوصياتهم، سواء كانت تلك الخصوصيات حرية، أو وقتا، أو جهدا، أو مالا أو غير ذلك.
والنظام كغيره من المهارات –أو القيم- لا يتوفر للإنسان من فراغ أو بصورة تلقائية أو صدفة، بل لابد من معرفة مسبقة وممارسة عملية وتعود. فكما يحتاج الإنسان –ابتداء من طفولته ونعومة أظفاره- إلى تعلم القيم الأخلاقية، كالصدق والأمانة والتسامح، وحسن المعاشرة، وإلى مهارات التعامل مع بني نوعه، فهو كذلك يحتاج إلى تعلم النظم والنظام ابتداء من هذه المرحلة. فإذا استطعنا أن نبني طفلا منظما، سيكون بمقدورنا صناعة إنسان منظم، يحترم النظام حينما يكبر ويصبح رجلا. ومن هنا فإن جزء كبيرا من مظاهر الإخلال بالنظم والنظام وخرقه تعود إلى أسباب وتقصيرات تربوية. فالطفل الذي قصر أبواه معه في تعليمه عادة النظم والنظام، يمكن أن لا يكون بمقدوره أن يصبح منظما في المستقبل حينما يكبر.
وأساس تعليم النظام كما أرى هو تعليم الإنسان منذ طفولته المبكرة القاعدة العقلية العملية: (وضع الشيء في موضعه)، سواء على مستوى الماديات أو المعنويات، مع العلم بأن هذه القاعدة ليست أساسا للاتصاف بالنظام فحسب، بل هي أساس للاتصاف والتحلي بكثير من القيم والمهارات والفنون، فكل شيء حينما يكون في موضعه المناسب يكون مرتبا ومنظما. فلو علمنا الطفل منذ صغره وعودناه على أن يضع أموره في مواضعها، وبما يتناسب مع عمره ومستوى نموه العقلي، لنشأ على درجة من الحكمة العملية، وسيكون النظم والنظام جزء من لاشعوره ومكونا عقليا ونفسيا من شخصيته، وسيكون بمقدوره أن يكون شخصا منظما في المستقبل.
وقد نستغرب أو نمتعض حين نشاهد سائقا أو راكبا في سيارة وهو يرمي بورق المحارم المستعملة، أو علب السجائر الفارغة، أو قشور الفواكه أوالمكسرات، وربما علب المشروبات الغازية، في الشارع. ولكن لو عدنا إلى أصول هذه الحالة فسنج نجد أنها تعود إلى منشأ تربوي في أغلبية الحالات. وحتى مخلفات البناء التي يتركها بعض أصحاب المباني لمدة طويلة في أماكنها بعد انتهائهم من البناء تعود حالاتها في جزء كبير منها إلى خلل في ثقافة النظام والنظام، وما من شك أن للتربية في الطفولة دور كبير في ذلك. لأن صاحب المبنى لم يستوعب أن التخلص من مخلفات البناء هو جزء من عملية إتمام البناء، وإنما هو متعود على أن البناء ينتهي بتوصيل التيار الكهربائي إلى مبناه، أما التخلص من مخلفات البناء فهي شأن آخر. ويحدث هذا خصوصا في المناطق التي يجاز فيها توصيل الكهرباء إلى المباني قبل التخلص من مخلفات البناء، أو عند التهاون في ذلك.
ولا جدال في أن للمقررات والقوانين الوضعية دورا كبيرا في إلزام الإنسان بالنظم والنظام، وخصوصا مع تفهم الإنسان لهذه المقررات ووجود المتابعة الجيدة من قبل المسؤولين. يضاف إل ذلك أن الجزاءات، سواء كانت مالية أو قضائية، وثقافة الحفاظ على المصلحة العامة وعدم الإضرار بالآخرين تساعد على إلزام الإنسان بالنظم والنظام، مع العلم بأن الأساس في ذلك هو التربية. والتوصية هنا أن يهتم الآباء والأمهات بتعليم أولادهم النظم والنظام منذ صغرهم، فمن شب على شيء شاب عليه كما يقول المثل السائر.
وفي تعليم النظم والنظام، ينبغي أن ترفد التربية الأسرية بالمناهج التعليمية، لكي يتعلم المرء النظام ويمارسه في أسرته، وفي مدرسته، وعلى اختلاف مراحلها ومستوياتها، ليكون صديقا للنظام، ويكون النظام عادة وطبعا فيه.
وكثيرة هي الأفعال والممارسات التي عن طريقها يمكن لنا أن نعود الطفل على ممارسة النظم والنظام وتعويده عليه، وأساس ذلك القاعدة الذهبية المتقدمة: (وضع الشيء في موضعه). ويمكن أن نبدأ معه من أمور بسيطة، لا ينبغي لنا أن نستهين بها، مع مراعاة التناسب مع السن ومستوى النمو العقلي وتحاشي تكليف الطفل فوق طاقته أو ما يعرضه للخطر. يمكننا أن نبدأ معه من إعادة تنظيمه للعبته، وتنظيمه لفراشه أو مكتبه أو حقيبته المدرسية، أو تنظيمه لغرفته. بإمكاننا أن نعوده على ترتيب فراشه بعد أن يصحو من نومه، أو أن نطلب منه تنظيم أطباق الطعام على مائدة الأكل. وسنجد أننا بتعويدنا لطفلنا على النظم والنظام سنرى فيه قابلية التطور إلى أن يكون شخصا مدبرا وقادرا على الاعتماد على نفسه حينما يكبر.
لماذا نجد في البلدان المتقدمة سيادة النظم والنظام بصرف النظر عن مظاهر الانحدار الأخلاقي؟ والإجابة على ذلك بأن الإنسان في تلك المجتمعات يعيش أجواء النظام منذ طفولته، يعيش النظام ويشاهده في المنزل والشارع والمدرسة والمؤسسة والنادي والجمعية والمعهد والكلية و…. وبكلمة أن النظام هناك موجود بدء من مؤسسات الإدارة العامة وحتى أصغر مؤسسة اجتماعية. وليس من الصحيح القول أن ثمة شعوب لديها قابلية للنظم والنظام، بينما ليس لشعوب أخرى تلك القابلية، كما هو شائع بين كثيرين منا أن العرب “مخربطين”، أي ليس لديهم قابلية للتحلي بالنظم والنظام. إن باستطاعة كل فرد، وكل شعب ومجتمع أن يكون منظما إذا وفر في نفسه شروط النظم والنظام. ومن تلك الشروط: التربية، والإرادة، والثقافة، والتعليم، والحكمة العملية، والتطور الاقتصادي، والشعور بقيمة النظم والنظام.
بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد