مولد السيدة فاظمة الزهراء (ع) الأسرة والتنشئة الأخلاقية للطفل
آبائي الكرام، إخواني الأفاضل، أيها الحفل الكريم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تيمنا وتبركا بهذه الذكرى المجيدة، ذكرى ولادة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (ع) بنت محمد (ص)، يطيب لي أن أكون في خدمتكم حول موضوع “الأسرة والتنشئة الأخلاقية”، وهـو موضوع في منتهى الأهمية بالنسبة لنا جميعا، لأنه يتعلق بالطفولة، هذه المرحلة الحساسة والتأسيسية لشخصية الإنسان، وبالتالي يتعلق بصناعة هذا الإنسان وبنائه، وهل هنـاك أهم من بناء وصناعة الإنسان؟ وأول ما يُستلهم من ذكرى سيدة النساء (ع) أنها الشخصية العظيمة التي تربت أحسن تربية على يدي أبيها الرسول الكريم (ص)، وأنها الأم المعطاءة التي تربى وترعرع في أحضانها سيدي شباب أهل الجنة، الإمامان العظيمان الحسـن والحسين (ع)، والعقيلة الخالدة، زينب بنت علي بن أبي طالب (ع)، وفي هذه الشخصيات التاريخية خير قـدوة وأسوة لنا في تنشئة وتربية أطفالنا، وفي مجمل حياتنا.
وموضوع الأسرة والتنشئة الأخلاقية للطفل هو موضوع يستدعي الكثير من التفصيل، لكنني قصدت الإشارة إلى بعض الجوانب في هذا المجال، بما يسمح به الوقت المحدد، وهي الانفتاح على الطفل والحوار معه، وتوجيه صداقاته، وهما موضوعان في منتهى الأهمية.
ومقدمة لذلك، وانطلاقا من الأسرة، الخلية الاجتماعية الأولى، جاز لنا جميعا أن نتساءل: ما هي التنشئة أو التربية؟ وما هي التنشئة أو التربية الأخلاقية؟
باختصار شديد، يمكن القول إن التربية هي مجموعة الجهود والمسؤوليات والإمكانيات التي يبذلها الوالدان بهدف تنمية طفلهما وصناعته في البعدين: المادي والمعنوي، ليكون فردا ذي سيرة حسنة، وتهيئته ليكون إنسان المستقبل القادر على إدارة نفسه ومتطلبات حياته الفردية والاجتماعية في مختلف مجالاتها. ومن خلال هذا التعريف الموجز نستشف أن في تربية الطفل جانبان رئيسان: الجانب المادي، والجانب المعنوي. ويتمثل البعد المادي، أو الجانب المادي في تهيئة الإمكانات المادية، مثل: المأكل، والمشرب، والمسكن، والملبس، ووسائل التعليم والتعلـم، وما شابهها. ويتمثل البعد المعنوي، أو الجانب المعنوي في تهيئة الإمكانات المعنويـة، مثل التعليم، والتثقيف، والتربية الإيمانية، والبناء الروحي، والتربية النفسية، والتنشئة الأخلاقية المؤدية إلى سلوك حسنة، وسيرة مشرّفة، وحياة زاخرة بالإنتاج والفعالية والعطاء. ووجود الخلل في أي من هذين البعدين يؤدي إلى خلل في الجانب الآخر، وبالتالي يؤدي إلى اضطراب في شخصية الطفل، خصوصا إذا علمنا أن حياة الإنسان مرتبطة ببعضها البعض. فالجانب المادي يؤثر في الجانب المعنوي ويتأثر به، والجانب المعنوي بدوره يؤثر في الجانب المادي ويتأثر به، الأمر الذي يتطلب منا الاهتمام المركز بكلا الجانبين.
وهنا تنبغي الإشارة إلى بعض التصورات الخاطئة في التربية. هناك من يتصور أن تربية الطفل تقتصر على إسكانه، وإطعامه، وكسوته، أي توفير المسكن والمطعم والملبس له وكفى. وهذا تصور خاطئ وخطير في ذات الوقت، لا ينبغي أن يكون له وجود في ما بيننا، وإذا ما وجد فينبغي لنا أن نصححه ونتجاوزه. إن هذا التصور يصور الطفل ويتعامل معه كحيوان خلق من أجل أن يسكن ويأكل ويلبس، بينما كرم الله تعالى الإنسان وخلقه من أجل دور كبير ووظيفة عظيمة، وهي خلافته في أرضه وعمارتها مادة وروحا. وعليه -أيها السادة- ليس من الصحيح أن نترك أولادنا بلا تنشئة وبلا تربية، ليس من الصحيح أن نتركهم بلا قيم فاضلة، ليس من الصحيح أن نتركهم يهيمون على رؤوسهم من مكان إلى مكان، يقتلون الأوقات، ويختلقون المشاكل والفتن مع غيرهم لأنفسهم ولأهاليهم. ليس من الصحيح أن ندعهم هكذا بـلا هدى من أمرهم، وبلا إرشاد، وبلا توجيه، وبلا متابعة، وبلا إشراف. إن إهمال الطفل -أيها السادة- يعد من أخطر وأبشع صور إساءة معاملته، وهو لن يعني إلا إرساله إلى الضيـاع، ولا يريد أي منا أن يكون مصير طفله أو ولده الضياع، بل يريد له أن يكون شيئا مذكورا في هذه الحياة. ومن هنا ينبغي أن نركز ونركز، ونهتم ونهتم في تربية أطفالنا وفي صناعة شخصياتهم، وأن نعطيهم من وقتنا وجهدنا، إذ التربية لا تتولد من فراغ، وإنما هي بكل تأكيد تقوم على السعي وبذل الجهد والعطاء والمثابرة، وتحتاج إلى القواعد والأساليب والطرق الفنية.
ومن الأمور الهامة والقواعد الأساسية في تربية الطفل: ممارسة الانفتاح والحوار معه. فالإنسان-باعتباره كائنا اجتماعيا- منذ أن يأتي إلى هذه الحياة تنشأ فيه الحاجة إلى انفتاح والديه عليه والتحاور معه، وهذا الانفتاح يبدأ من أبسط صوره في بداية الطفولة، ثم يأخذ بالاتساع تدريجيا تبعا لنمو الطفل. ففي الأيام الأولى للطفولة يكون ذلك الانفتاح مشمولا ضمـن حضانة الأم له، وبما تسبغه عليه من رضاعة ودفء وحنان وعاطفة ومناغاة، وهكـذا الحال بالنسبة للأب. ومع نمو الطفـل واتساع معرفته بما حوله تتكون لديه حاجة أكبر لاتفتاح والديه عليه، خصوصا عندمـا يبد الطفل بإدراك الأصوات التي يصدرها الوالدان بغية ملاعبته وتسليته. وعنما يبدأ الطفل بالنطق، وفهم الكلمات والعبارات، عندها يكون بحاجة إلى درجة أوسع من الانفتاح والحوار، وعندما يصبح شبلا فشابا تتسع الحاجة إلى الانفتاح والحوار أكثر فأكثر. والقاعدة العامة في الانفتاح والحوار مع الطفل أن يأتي الوالد (أبا وأما) ويجلس معه، ويبدأ بالتحاور معه في شؤونه، عن طريق إتاحة الفرصة له في التكلم، وتوجيه الأسئلة التربوية إليه، والإجابة على تساؤلاته واستفساراته بصدر رحب، وتنويره بما يلزم، وبما يتناسب مع مستوى إدراكه، أي بمخاطبته على قدر عقله. وللعلم فإن انفتاح الوالدين علـى طفلهما في طفولته يرسم في ذهنه القابلية للانفتاح على والديه والتحاور معهما حينما يكبر، بل ويساعده حينما يصبح شابا ورجلا. ومن هنا ينبغي أن نمارس الحوار مع أطفالنا منـذ نعومة أظفارهم، وأن نعلم أن للحوار مع الطفل فوائد كثيرة. فهو يزيد من معرفته وثقافته، وينمي أخلاقه ومهاراته، ويساعده على صناعة العلاقات الاجتماعية مع غيره، ويقيه من حالة الكبت التي تنجم من انعدام الانفتاح والحوار في العائلة. ويؤكد خبراء الطفولة أن الانفتاح على الطفل والحوار معه يساعده على النطق في سن مبكرة بعد ولادته، ويؤهله ليكون شخصية اجتماعية، بينما انعدام الانفتاح والحوار قد تؤخر النطق عنده، وقد تؤدي إلى إصابتـه بسوء النطق أو التلعثم، وقد تجعل منه شخصية انطوائية منعزلة. ومن خلال الحـوار مع الطفل يمكن ضبط وتقويم سلوكه، وإرشاده وتوجيهه، ومدحه وتشجيعه والثناء عليه وإطراؤه حينما يمارس الحسن من الأفعال والتصرفات، وتقويمه حينما يمارس ما هو غير حسن. ويخطئ أولئك الآباء والأمهات الذي يعتقدون أن تقويم سلوك الطفل يتم عبر إصدار الأوامر والزجر والصراخ أو الاعتماد على العصا، فالعصا وحدها لا تربي طفلا، بل لابد مـن الانفتاح على الطفل والحوار معه بغية تقويم سلوكه.
كذلك يعمل الانفتاح والحوار مع الطفل على تكريس مبدأ الرجوع الاجتماعي إليهما فيه، أي مراجعتهما في الأمور التي تحتاج إلى مراجعة وتشاور قبل البدء في التصرف، خصوصا في المواقع التي تختلط فيها الأمور على الطفل، ويصبح التمييز بين الصواب والخطأ صعبا عليـه، وبالتالي فإن الانفتاح والحوار يقوي فيه صفة المشاورة والاستماع إلى الرأي الآخر. أما الانغلاق على الطفل وفقدان الحوار معه يشجعه على كبت كل ما لديه، والابتعاد عن مكاشفة والديه والتحاور معهما فيما لديه من شؤون. كذلك يعمل الحوار على تعزيز صداقته بوالديه، وتعليمه كيف يدخل مع الآخرين في علاقات اجتماعية، وكيفية اتخاذ أصدقاء من بينهم. وتؤكد التجربة الإنسانية والأبحاث العلمية أن الأطفال الذين تربوا منذ صغرهم على الانفتاح والحوار من والديهم، يكونون مؤهلين لأن يكونوا شخصيات منفتحة ومحاورة حينما يكبرون ويصبحون رجالا، وعكس ذلك صحيح، فالأطفال الذين عودوا منذ صغرهم على الانغلاق وعدم ممارسة الحوار يميلون في كبرهم إلى أن يكون شخصيات غير منفتحة وغير حوارية.
وكم هو مفيد وجميل أن يجلس الوالد (أبا وأما) مع طفله، ويطلع على ما لديه من أمور ومسائل في جو من الانفتاح والحوار الهادئ والحب والصداقة.
والموضوع الآخر الذي قصدت الإشارة إليه: صداقات الطفل وتوجيهها، وهو موضوع في منتهى الأهمية لأنها تقرر مصيره، وتحدد في ما إذا كان سينتهي إلى شخص صالح ذي سيـرة حسنة مشرِّفـة، أو سينتهي إلى شخص طالح وذي سيرة سيئة غير مشرفة. ولذا ليـس من المبالغة القول المشهور: قل لي من تصادق أقل لك من أنت. وفي البدء ينبغي أن نعلم أن الصداقة حاجة إنسانية أكيدة لأن الإنسان فطر على الاجتماع مع بني، ومن هنا سمي إنسانا وبشرا، هذا من جانب، ومن جانب آخر هو بحاجة إلى التكامل والتعاون معهم، ولا يمكنه الاستغناء عنهم.
ومن هنا ينبغي أن نعطي اهتماما كبيرا لصداقات أطفالنا، بأن نعلمهم دور ووظيفة الصداقة في الحياة، وأن نعلمهم كيف يصادقون، ومن يصادقون، وكيف يختارون أصدقاءهم. ينبغي أن نعلمهم من هم الجديرون بالمصادقة ومن هم غير الجديرين بها، باعتبار أن هناك الجيد وهنـاك الرديء، هناك الصالح وهناك الطالح، وينبغي أن نعلم أطفالنا كيف يميزون بين هؤلاء وأولئك، وكيف يختارون أهل الصلاح. وللعلم -أيها السادة- فإن أغلب الانحرافات الأخلاقيـة، ومنها الوقوع في خط الإدمان على المشروبات الكحولية وتعاطي المخدرات والوقوع في الجريمة، ومنها السرقة، والعلاقات الجنسية غير المشروعة تنشأ من الصداقات. فالكلمة المشهورة تقول: من عاشر قوما أربعين يوما صار منهم. ويقول الشاعر: عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي. ومن هنا لكي نضمن سيرة حسنة لأولادنا ينبغي أن نهتم ونهتم بموضوع الصداقة، وأول ذلك أن ننفتح عليهم ونصادقهم ونكون أصدقاء لهم، وأن نتحاور معهم في هذا السبيل ونوجههم ونرشدهم على طريق اختيار أصدقاء صالحين.
أرجو أن لا أكون قد أطلت عليكم أيها الحفل الكريم، وملخص الكلام أن نعطي لتربية أطفالنا أهمية كبيرة، وأن ننفتح عليهم ونتحاور معهم، ونوجه صداقاتهم، لكي نصنع منهم رجالا صالحين. ولا ننسى أن نصنع من أنفسنا أمثلة صالحة لهم، ونؤدبهم بسيرتنا قبل أن نؤدبهم بكلامنا، فالطفل أول ما يقتدي، يقتدي بوالديه، وكيفما نكون يكون أولادنا، فلنكن أمثلة طيبة لهم. ومسك الختام بهذين البيتين الشعريين الذين استقيتهما من الكلمة التاريخية للإمام علي بن أبي طالب (ع): “إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، أيما شيء ألقي فيها قبلته”، أقول: (وما الطفل إلا مثل أرض ندية ووالده يلقي عليها ويبتدي/إذا شئت أن تحظى بطفل مؤدب فكن مثلا يصبو إليه ويقتدي)، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد
16/9/2000م